ليلة النصف من شهر شعبان


ليلة النصف من شهر شعبان


الحمد لله ، شرح بفضله صدور أهل الايمان بالهدى ، و أضل من شاء بحكمته و عدله فلن تجد له ولياً مرشداً .


أحمده سبحانه وأشكره ، و أتوب إليه و أستغفره ، أحاط بكل شيءٍ علماً ، وأحصى كل شيءٍ عدداً ،


و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهاً واحداً فرداً صمداً ،


و أشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبدالله و رسوله كرم أصلاً و طاب محتداً . خصه ربه بالمقام المحمود و سماه محمداً ، صلى الله و سلم و بارك عليه و على آله و أصحابه هم النجوم بهم يهتدى ، و التابعين و من تبعهم بإحسان و سار على نهجهم و اقتدى .



أمــا بــعــد :


فأوصيكم ـ أيها الناس ـ و نفسي بتقوى الله عز و جل ، اتقوا الله و أصلحوا ذات بينكم و أطيعوا الله و رسوله إن كنتم مؤمنين .

أصلحوا ذات بينكم ، فالإصلاح مصدر الطمأنينة و الهدوء و مبعث الاستقرار و الأمن ، و ينبوع الألفة و المحبة . إنه عنوان الإيمان في الإخوان :


{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }


[الحجرات:10].


معاشر المؤمنين : روى ابن حبان في صحيحه من حديث


معاذ بن جبل رضي الله عنه قال :


قال رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) :


(( يطلع الله إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن ))


و المشرك : كل من أشرك مع الله شيئا في ذاته تعالى ، أو في صفاته ، أو في عبادته . و المشاحن : هو المعادي ، و الشحناء هي العداوة .


عباد الله : و مع اقتراب هذه الليلة الفضيلة و دنوها ، و الجميع يرنو إلى نيل ما فيها من العفو و الغفران ، يستعذب الحديث و يستحسن ، عن الإصلاح بين الناس ، وبيان مسلكه و كيفيته ، و التحذير من الشحناء و الخصومة و التمادي فيهما .


أيها الإخوة ، لقد أقضت مضاجع القضاة القضايا ، و امتلأت كثيراً من السجون بالبلايا ، ناهيك بما في مراكز الشرطة و أسرة المشافي من المآسي .


إن التنازع و التشاحن مفسد للبيوت و الأسر ، مهلك للشعوب و الأمم ، سافك للدماء ، مبدد للثروات .


{ وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُواْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ }


[الأنفال:46].


بالخصومات و المشاحنات تنتهك حرمات الدين ، و يعم الشر القريب و البعيد . و من أجل ذلك سمى رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) فساد ذات البين بالحالقة ، فهي لا تحلق الشعر و لكنها تحلق الدين .


إن الأمة تحتاج إلى إصلاح يدخل الرضا على المتخاصمين ، و يعيد الوئام إلى المتنازعين . إصلاح تسكن به النفوس ، و تأتلف به القلوب . إصلاح يقوم به عصبة خيرون ، شرفت أقدارهم ، و كرمت أخلاقهم ، و طابت منابتهم ، و إنهم بمثل هذه المساعي الخيرة يبرهنون على نبل الطباع و كرم السجايا .


فئات من ذوي الشهامة من الرجال و المقامات العلية من القوم ، رجال مصلحون ذو خبرة و عقل و إيمان و صبر ، يخبرون الناس في أحوالهم و معاملاتهم ، حذاق في معالجة أدوائهم ، أهل إحاطة بنفوس المتخاصمين و خواطر المتباغضين و السعي بما يرضي الطرفين .


أيها الإحبة ، إن سبيل الإصلاح عزيمة راشدة ، و نية خيرة ، و إرادة مصلحة . و بريد الإصلاح ، حكمة المنهج ، و جميل الصبر ، و طيب الثناء ، سبيل و بريد يقوم به لبيب تقي ، يسره أن يسود الوئام بين الناس :


{ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }


[النساء:129].


أيها الإخوة ، و للإصلاح فقه و مسالك دلت عليها نصوص الشرع و سار عليها المصلحون المخلصون . إن من فقه الإصلاح حسن النية ، و ابتغاء مرضاة الله ، و تجنب الأهواء الشخصية و المنافع الدنيوية . إذا تحقق الإخلاص حل التوفيق و جرى التوافق و أنزل الثبات في الأمر و العزيمة على الرشد .


أما من قصد بإصلاحه الترؤس و الرياء و ارتفاع الذكر و الاستعلاء فبعيد أن ينال ثواب الآخرة ، و حري ألا يحالف التوفيق مسعاه


{ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتَغَاء مَرْضَـٰتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } [النساء:114].


و من فقه الإصلاح سلوك مسلك السر و النجوى . فلئن كان كثير من النجوى مذموماً فإن ما كان من صدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس فهو محمود مستثنى :


{ لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـٰحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتَغَاء مَرْضَـٰتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }


[النساء:114].


أيها الإخوة ، و هذا فقه في الإصلاح دقيق ، فلعل فشل كثير من مساعي الصلح بسبب فشو الأحاديث ، و تسرب الأخبار ، و تشويشات الفهوم مما يفسد الأمور المبرمة و الاتفاقيات الخيرة .


إن من الخير في باب الإصلاح أن يسلك به مسلك النجوى و المسارة ، فمن عرف الناس و خبر أحوالهم لاسيما فيما يجري بينهم من منازعات و خصومات و ما يستتبع ذلك من حبٍ للغلبة و انتصار للنفس أدرك دقة هذا المسلك و عمق هذا الفقه . إن من الناس من يأبى أن يسعى في الصلح فلان أو فلانةٌ ، و آخر يصر على أن تكون المبادرة من خصمه . و تمشياً مع هذه المسالك السرية و التحركات المحبوكة أذن الشارع للمصلح بنوع من الكذب في العبارات و الوعود .


( فليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس فينمي خيراً ، أو يقول خيراً ) .


هذا هو حديث رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) ،


و في خبر آخر عنه يقول عليه الصلاة و السلام :


( لا يصلح الكذب إلا في ثلاث ؛ رجل يصلح بين اثنين ، و الحرب خدعة ، و الرجل يصلح امرأته ) .


و يقول نعيم بن حماد : قلت لسفيان بن عيينة : أرأيت الرجل يعتذر من الشيء عسى أن يكون قد فعله و يُحرِّف فيه القول ليرضي صاحبه أعليه فيه حرج ؟ قال : لا .


ألم تسمع قوله ( صلى الله عليه و سلم ) :


( ليس بكاذب من قال خيراً ، أو أصلح خيراً ، أو أصلح بين الناس ) ،


و قد قال الله عز و جل :


{ لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـٰحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتَغَاء مَرْضَـٰتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }


[النساء:114].


إنها النفوس الشحيحة التي تحمل صاحبها و غيرها على ما تكره .


و لكن في مقابل هذه النفوس الشحيحة يترقى أصحاب المروءات من المصلحين الأخيار ليبذلوا و يغرموا ، نعم يبذلون الوقت و الجهد ، و يصرفون المال و الجاه ، و لقد قدر الإسلام مروءتهم ، و حفظ لهم معروفهم ، فجعل في حساب الزكاة ما يحمل عنهم غرامتهم ـ بارك الله فيهم ـ لئلا يُجْحِفَ ذلك بسادات القوم المصلحين .


أيها الإخوة في الله ، و ميدان الصلح واسع عريض ؛ في الأفراد و الجماعات و الأزواج و الزوجات ، و الكفار و المسلمين ، و الفئات الباغية و العادلة ، في الأموال و الدماء ، و النزاع و الخصومات .


و من أجل ذلك فقد عظم ثوابه ، و كبر أجره ، فهو أفضل من درجة الصيام و الصلاة و الصدقة ،


فقد قال عليه الصلاة و السلام


( ألا أدلكم على أفضل من درجة الصلاة و الصيام و الصدقة ؟ )


قالوا : بلى يارسول الله ، قال :


( إصلاح ذات البين ، فإن فساد ذات البين هي الحالقة ، لا أقول تحلق الشعر و لكن تحلق الدِّينَ ) .


و لقد باشر الصلح بنفسه عليه الصلاة و السلام حين تنازع أهل قباء ، فندب أصحابه و قال :


( اذهبوا بنا نصلح بينهم ) .


و خرج عليه الصلاة والسلام للإصلاح بين أناس من بني عوف حتى تأخر عن صلاة الجماعة . إذا كان الأمر كذلك ـ أيها الاخوة ـ ، فمن ذا الذي لا يقبل الصلح و لا يسعى فيه ، ليسوا إلا أناس قد قست قلوبهم ، و فسدت بواطنهم و خبثت نياتهم ؛ حتى كأنهم لا يحبون إلا الشر ، و لا يسعون إلا في الفساد ، و لا يجنحون إلا إلى الظلم .


و الأشد و الأنكى أن ترى فئات من الناس ساءت أخلاقها ، و غلظت أكبادها ، لا يكتفون بالسكوت و السكون ، بل في أجوائهم يستفحل الخصام ، و يقسو الكلام ، و ما أشبه هؤلاء بأعداء الإسلام و أهل النفاق ، إنهم يلهبون نار العداوة و يوقدون سعير البغضاء كلما خبت نار الفتن أوقدوها . و لا غرو بعد ذلك أن تضيع الحقوق ، و تهدر الحرمات ، و يرق الدين ، و تنزع البركات .


ألا فاتقوا الله رحمكم الله ، اتقوه و أصلحوا ذات بينكم ، جعلنا الله و إياكم ممن شملتهم مغفرته و رحمته ، إنه سميع مجيب . نفعني الله و إياكم بهدي كتابه و بسنة نبيه محمد صلى الله عليه و سلم ؛


أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم و لسائر المسلمين من كل ذنب و خطيئة فاستغفروه و توبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم .


هذه الخطبة لفضيلة الشيخ

نبيل عبدالرحيم الرفاعى


أمام و خطيب مسجد التقوى - شارع التحلية - جدة


منقول للافاده


كل عام وانتم بخير
للمزيد من مواضيعي

ليست هناك تعليقات: